بربتوا كتبت مذكرات وهي في الحبس وصفت حياتها وايمانها
عندما كنت مع جماعتي التي تم القبض عليها جاءني والدي مُنفعلًا بسبب شدّة عاطفته وحُبّه نحوي، محاولًا زعزعتي وتحطيم عزيمتي فبادرته:
أبي: أترى هذه القلة التي تحوي الماء أمامك؟
فقال لي: نعم أراها.
فسألته: هل يمكن أن تُغيّر القُلّة اسمها؟
فأجابني: بالطبع لا.
فقُلت له: هكذا أنا أيضًا لا يُمكن أن أُدعى بغير اسمي “مسيحية”.
ثورة أبي:
عندما وقعت كلمة “مسيحية” على أُذني والدي هاج واندفع نحوي كأنما يود تخزيق عيني، ولكنه جمد واكتفى بإهانتي إذ انحلّت قوّته عندما اقترب منّي كما انحلّت كل حُججه الشيطانية.
الولادة الجديدة والاستعداد للآلام:
أخذونا بعيدًا ووضعونا في بيت من بيوت المدينة، تحفُّظًا علينا لردعنا لعلّنا نرجع عن رأينا، ففارقت أبي إلى عدة أيام، وشكرت الرب على ذلك إذ شعرت براحة ونشوة في غيابه.
وفي هذه الأيام القليلة عمّدونا جميعًا، وتقبّلت أمرًا من الروح القدس أن لا أهتم بشيء قط بعد خروجي من الماء المقدس سوى تحمل الآلام الجسدية.
إلى السجن:
ولم يطل علينا الوقت فبعد أيام أُودعنا السجن، فاعتراني في البدء خوف شديد إذ لم يسبق لي قطّ الوجود في مثل هذا الظلام. يا له من يوم مُرعب! الحرارة فظيعة لا تُطاق إني أتعزّي بالجماهير المُزدحمة ولكن ما أقسى أيدي الجنود. قلقي يُمزّقني بسبب غياب ابني الرضيع، لقد تدخّل الشماسان المُباركان ترتيوس Tertius وبومبونيوس Pompnious اللذان كُلِّفا بخدمتنا ودفعا شيئًا من المال للجند فنقلونا لعدّة ساعات إلى مكان أفضل داخل السجن لنلتقط أنفاسنا، وأخيرًا خرج الكل وانفضّت الجماهير وبقينا وحدنا.
رضيعي معي في السجن:
لقد أحضروا لي ابني الرضيع الذي كان مغشيًا عليه من الجوع فأرضعته وسلّمته لأُمي وقد أوصيتها عليه بحرارة، وشجّعت أخي الآخَر وأوصيتهم جميعًا على ابني، وقد اعتراني اكتئابًا شديدًا لمَّا وجدتهم في حسرة وغم من أجلي (إن تحمُّل الآلام الجسدية أسهل بكثير من أصوات الأحباء وهي تستعطف متألمة، فهذه قمة العذابات) وقد ظَللتُ أعاني من القلق والاكتئاب عدة أيام، وأخيرًا حصلوا لي على إذن بدخول رضيعي معي في السجن، وفي الحال استعدت قواي وفارقني القلق والاكتئاب، فصار السجن في نظري كأنه قصر ووددتُ أن أبقى فيه أفضل من أي مكان آخَر.
وجاءني أخي قائلًا: “أختي الحبيبة، أنتِ الآن في كرامة عظيمة تؤهّلكِ أن تصلّي من أجل رؤيا. فاطلبي حتى نعرف هل سينتهي الأمر بإطلاقك أم بتعذيبكِ؟
وإذ كنتُ أعلم أني فعلًا عندي كلمة الرب الذي من أجله قد صرت هنا، أعطيته وعدًا بثقة: باكرًا سأُعطيك الكلمة. وتضرّعت إلى الرب فظهر لي الآتي:
رأيت وإذ بسلّم نحاسي طوله عجيب يمسّ السماء، ولكنه ضيقًا جدًا بالقدر الذي لا يسمح إلاَّ لواحد فقط بالصعود عليه، وعلى جانبي السُّلم أسلحة حديدية مُدجّجة من كل نوع: سيوف ومدي وخناجر وخطاطيف، حتى إذا كان أحد يغفل أثناء صعوده ولا يُثبِّت نظره إلى فوق دائمًا، فإنه حتمًا يتمزّق بهذه الأسلحة، وفي نهاية السُّلم من أسفل يربض تنين ضخم يتربّص بالصاعدين ويزعجهم ليُعرقِل صعودهم، ورأيت وإذ “ساتورس” يصعد في الأول باذلًا نفسه عنّا بمحض حريّته، ولا عجب فإيماننا جميعًا كان على يديه فهو مُعلمنا.
ثم انحنى والتفت إليَّ قائلًا: “بربتوا” أنا في انتظارك ولكن احترسي من التنين حتى لا يؤذيكِ فأجبته: “إنه لن يؤذيني باسم الرب يسوع المسيح”، فأدار التنين رأسه عنِّي وكأنه في ذُعر منِّي. وإذ بي بدل أن أضع رجلي على أول درجة أضعها على رأس التنين وأعبر منها إلى السُّلم وأصعد عليه، والتفت وإذ بحديقة مُتّسعة وفي وسطها إنسان جالس شعره أبيض وعليه لِبَاس الرُّعاة وكان فارع الطول، ورأيته ينحني ليحلب غنمه وكان حوله ألوف مُتسربلين بثياب بيضاء، فرفع الراعي رأسه ونظر إليَّ وكلمني: “حَسنًا جئتِ يا بُنيَّتي” ودعاني نحوه وأعطاني كعكة مصنوعة من اللّبن فمددت يديَّ المربوطتيْن وأخذتها منه وأكلتها، فإذا بكل الجمع الواقف يقولون معًا: آمين. وعلى صوت الكلمة استيقظت وما يزال في فمي شيء حلو كالعسل.
وفي الحال دعوت أخي وأعلمته بالرؤيا فعرفت أننا لابد أننا سنتألم وحينئذ فقدنا الأمل في هذا العالم. وبعد أيام قليلة ذاع خبر أننا قادمون على امتحان شديد.
وفي هذه الأثناء جاء أبي من المدينة مُعيًي من الهمّ، وصعد الجبل الذي عليه السجن ودخل ليرانا محاولًا بيأس أن يُزعزع عزيمتي، وبادرني بحزنٍ:
“يا ابنتي، ارحمي شيبتي، أشفِقي على أبيكِ، إن كنتُ أستحقُّ -بعدُ- أن أُدعَى أبًا لكِ في نظركِ. لقد حملتكِ ونشأتكِ بهاتيْن اليديْن، لقد أحببتكِ وميَّزتُكِ على كافة إخوتكِ، لا تسلميني إلى مذمّة الناس وفضيحتهم، أُذكري أُمّكِ وإخوتكِ وخالاتكِ وابنكِ الرضيع، الذي لن يستطيع أن يعيش بدونكِ. انزعي كبرياءكِ، ولا تحطمي نفوسنا جميعًا، فلن يستطيع أحد منّا أن يرفع رأسه أو يتكلم بحُرية بسببكِ إذا أصابكِ شيء”.
وظلّ يتكلّم بحُرقة وهو يُقبِّل يدي، وأخيرًا ارتمى على رجلي وبكى وهو يُخاطبني بلقب “سيّدة”.
وقد حزنت أشدّ الحزن عليه لأنه الوحيد في عائلتي الذي لم يسعد ولم يفرح بتعذيبي فابتدأت أُعزّيه:
“اعلم يا أبي أن كل ما يحدث هنا هو حسب مشيئة الله، وتأكّد جدًا أننا لا يمكن أن نتصرّف حسب مقدرتنا، فنحن واقعون تحت قدرة الله”. فتركني وهو مهموم حزين كسيف البال …
وفي يوم بينما نحن نتناول وجبة الظهر أخرجونا بعجلة إلى سوق المدينة لكي يمتحنوننا. ووصلنا إلى مكان السوق، وإذ عُلِم الخبر، تجمّع شعب غفير. وأوقفونا على رصيف عال، بَدَأوا يستجوبوننا، فاعترف كثيرون بالإيمان. وجاء دوري، وإذ بي ألمح أبي واقفًا قبالي حاملًا ابني الرضيع واقترب منِّي حتى صار على بُعد خطوة وناداني: “ارحمي رضيعك” وإذا بالقنصل هيلاريان الذي كان قد تسلم سُلطان الحُكم بالموت أو بالحياة على كل المسجونين خلفًا للوالي مينوسيوس تيمينانوس يقول لي: ” أشفقي على شيخوخة أبيكِ، وارحمي رضيعكِ وقدّمي ذبيحة عن سلامة الإمبراطور”، فأجبته على الفور: “كلاّ”، فسألني: “هل أنتِ مسيحية؟”
فأجبته على الفور: “نعم”.
ولمّا حاول أبي أن يقتحم الحديث ليثنيني عن عزمي، أمر هيلاريان أن يُطرح بعيداً. فألقاه العسكر على الأرض وضربه القاضي بالعصا، فارتجّت نفسي بسبب الورطة التي وقع فيها أبي وكأن العصا وقعت على رأسي أنا، وحزنت غاية الحزن بسبب ما أصابه وهو في كِبَر أيّامه.
هيلاريان ينطق بالحكم:
وحينئذٍ وقف هيلاريانوس ونطق بالحكم على جميعنا، وكانت العقوبة أن نُطرح كلّنا للوحوش، فخرجنا كلّنا بفرح وتهليل واستودعنا السجن.
عندما يكون اللَّه الأول:
فلمَّا عُدت أطلب ابني لأُرضِعه، عاد إليَّ بومبونيوس الشماس يخبرني أن أبي رفض أن يعيده إليَّ، وكأنها إرادة الله، فلا الطفل عاد يطلبني، ولا صدري عاد يدر اللّبن. فتوقّف قلقي في الحال وزال الألم الذي كان يعاودني في صدري جرّاء انحباس اللّبن.
وبعد أيام بينما كنا كلّنا واقفين نصلي، فجأة نطقت بصوتٍ عالٍ اسم دينوكراتس Dinocrates، واندهشت للغاية إذ أنه لم يخطر على بالي قطّ حتى هذه اللحظة، وإذ بي أشعر بحزن من أجله بسبب ما اعتراه، وفي الحال رأيت وكأنما أعطيت الفرصة والتزام التضرُّع من أجله، فابتدأت أُصلِّي بحرارة عنه وبكيت كثيرًا لدى السيّد الرب، وفي مساء اليوم عينه رأيت دينوكراتس قادمًا من مكان مُظلِم، يحيطه الظلام من كل جهة، وهو في حُمى وملتهب عطشًا، ووجهه شاحب ومكمّد، والجرح الذي في وجهه الذي مات به لا يزال كما هو. ودينوكراتس هو أخي بالجسد الذي كان قد مات وهو بالغ من العمر سبع سنوات بغرغرينا شديدة في الوجه جعلتنا كلنا نمتلئ وجعًا عليه.
ولمّا بدأت صلاتي، كانت تفصلني عنه هوّة سحيقة، فكان عسيرًا على كل منّا أن يأتي للآخَر، وكان بالقُرب منه فسقيّة مملوءة ماءً ولكن حافتها كانت أعلى من رأس دينوكراتس، فلمَّا وقف على أصابع رجليه لكي يشرب لم يستطِع، فحزنت لأن الفسقية كانت مملوءة ماءً، وبالرغم من ذلك لم يتمكّن من الشرب منها.
واستيقظت فعلمت أن الولد في ضيقة عظيمة، غير أنّي كنت واثقة أني قادرة على إنقاذه من ضيقته. فصلّيت من أجل أن يرحمه الله ويُعطهِ راحة.
وبعد أيام ابتدأ “بيودينس” رئيس أركان الجيش المتولِّي شئون السجن أن يُقدِّم لنا شيئًا كثيرًا من الإكرام عندما أحسّ بنوع القوة العظيمة التي كانت فينا، وصرّح لكثيرين بزيارتنا قاصدًا الترويح عن أنفسنا.
ولمَّا اقترب يوم الاستعراض زارني أبي في السجن، وكان مُعيًى من الهم، وابتدأ ينتف شعر لحيته ويرميه على الأرض، وألقى بنفسه على الأرض ووجهه في التراب، وأخذ يلعن سنين حياته ويقول كلامًا صعبًا نكّد به على الدنيا كلّها من حولنا، فتأسفت جدًا في نفسي على عدم سعادة شيخوخته.
“فَإِنَّ حَرْبَنَا لَيْسَتْ ضِدَّ ذَوِي اللَّحْمِ وَالدَّمِ، بَلْ ……….. ضِدُّ قِوَى الشَّرِّ الرُّوحِيَّةِ فِي السَّمَاوَاتِ” (أفسس 6: 12).
وفي اليوم السابق ليوم مصارعتنا مع الوحوش رأيت في رؤيا: وإذ “بومبونيوس” يقرع على باب السجن بشدّة، وذهبت وفتحت له، فرأيته مُتسربلًا بثوب أبيض ولكن بدون منطقة، وفي رجليه حذاء عجيب الصنع، وابتدرني: “بربتوا، نحن في انتظارك تعالي ..”
وأخذني بيدي وابتدأنا نعبر على قرى وبلاد مخرّبة. وبعد تعب وجهد شديدين، بلغنا أخيرًا مسرحًا للمصارعات، وقادني حتى منتصف ساحته وقال لي: “لا تخافي أنا هنا معكِ وسوف أتألّم مثلكِ، وتركني …”. ثم رأيت جمعًا عظيمًا يراقبونني بلهفة، وإذ كنت أعلم في نفسي أني محكوم عليَّ بمصارعة الوحوش، اندهشت لمّا رأيت الساحة خالية من الوحوش. ولكن رأيت إنسانًا جبّارًا جافي الوجه مع أعوان له يتربّصون لمحاربتي، ولكن جاءني بالمثل جماعة من الشباب النضّار لمساعدتي. وإذ بي أنسلخ عن شكلي فأصير رَجلًا والذين معي بَدَأوا يدهنون جسدي بالزيت كما يُصنَع بالذين يدخلون المعركة، وكان الجبّار يدور على الرمال متأهبًا أمامي. ورأيت وإذا رَجُل قد دخل الساحة، عظيم للغاية ومتسربل بثوب قرمزي، وفي رجليه حذاء من ذهب، وفي يده قصبة، وبالأخرى غُصن أخضر به تفاح من ذهب، ونادى مثل حَكَم قائلًا: “إذا غلبها الجبار يقتلها بسيفه، وإذا غلبته فلها هذا الغُصن والتفاح الذهب” وانتحى جانباً.
فاقترب نحوي الجبار، أمّا أنا فأقدمت عليه وضربته بقبضة يدي، فبادلني الضرب وحاول أن يمسك رجلي، أمّا أنا فطفقت أضرب وجهه بكعبي رجليَّ وأحسست أني أرتفع في الهواء، فأصبحت فوقه أضربه وكأني لست على الأرض.
ولكي لا تطول المعركة، أخذت أضربه بكلتا يدي ولمَّا قبضت على رأسه ودفعته سقط على وجهه، فأسرعت ودست على رأسه. فبدأ الشعب يهتف لي، أمّا معاونيّ فكانوا ينشدون بالمزامير، وتقدّمت إلى الحَكَم وتسلّمت الغصن ذا التفاح، وأعطاني إياه قائلًا: “سلام لك يا بُنيَّتي” فخرجت بانتصار صوب الباب وكان مكتوبًا عليه: “باب الحياة”. ولمَّا استيقظت، علمت أني قادمة في الحقيقة ليس لمصارعة وحوش، وإنما لمصارعة الشيطان. ولكني كنت واثقة إني مُنتصرة … هذا كتبته قبل يوم الاستعراض.